الثلاثاء، يونيو 15، 2010

قصة " ضد مجهول "










ضد مجهول

سمعت عن الحرية في تلك البلد ، بل وعن قمة الديمقراطية فيها ، وحقوق الإنسان ، بالإضافة إلي حقوق الحيوان التي تحترم قبل الإنسان في جميع أرجاء الدنيا كما يزعمون .. انبهرت بها شأني شأن الجميع في أرجاء المعمورة .. ذهبت إليها ، وأنا فخور بذلك ، وهذا عامي الثالث .

عندما دخلت أحد المتاجر في تلك الولاية الجميلة التي تتسم بالحرية !! دخلت لأشتري بعض مستلزماتي ، وعلي غرة من أمري فــُتح باب المتجر فقرع جرس الباب بشدة ، وإذا بي أنبطح علي الأرض واضعاً يدي فوق رأسي لافتاً بذلك انتباه الجميع ، وحين رفعت هامتي ببطء ، ونظرت في أعينهم وجدتهم مندهشين لبرهة ثم قال أحدهم :

- مجنون ..

انطلق الجميع في إثر تلك الكلمة بضحكاتهم الواحد تلو الآخر .. نهضت من علي الأرض ببطء ، و أنا أنظف ثيابي التي لم يصبها التلف من شدة نظافة الأرض ، ولكن لكي أختبئ خلفها من نظرات الجميع ؛ ثم وضعت يدي في جيب البنطلون ، وأخرجت منديلاً أجفف به عرقي - رغم أن درجة حرارة المكيف خمس درجات تحت الصفر – أو خوفي بالمعني الأدق ؛ ثم خرجت من المتجر مسرعاً خوفاً من أن يلاحقني أحدهم ، ويقذفني بعلب البيبسي ، ولكي أحتفظ أيضاً ببعضً من كرامتي .. الجميع ضحك، و استهان بي دون أن يسأل نفسه:

- ماذا دفعني لهذه الفعلة ؟

و لا عجب فهذه طبيعة هذا الشعب .

إنني أعمل أخصائياً للتحاليل الطبية بإحدى مستشفيات الولاية في معمل التحاليل تحت إشراف رئيسي أ.د / جابر فقد اعتاد كلاً منا علي الآخر ، أصبح بمثابة الأب و الأخ الأكبر ، أرشف منه العلم و المعرفة ، و أستشف منه احترام العقل و الذات ، و التمسك بالمثــُل و القيم الأخلاقية .. كان يحكي لي عنه وعن حياته السابقة في عدة ولايات أخر ، وعن قدر معاناته حتى وصل إلي ذلك المنصب العظيم ؛ فلا عجب في ذلك فنحن أبناء الوطن الواحد .

أذكر ذلك جيداً فقد حدثني عن براءة أطفاله محمد ، وملك ، وعن طيبة زوجته حتى شعرت أنني أعرفهم قبل أن أراهم وبعد أن رأيتهم عن قرب ازداد تعلقي بهم .. إلي أي مدي يقدس هذا الرجل حياته الزوجية ، و أسرته الصغيرة ، إلي أي مدي يعشق وطنه ومنزله الكبير الذي لا يكل الحديث عنه رغم الظروف السيئة التي أخرجته منه ؛ إلي أي مدي كان متميزاً في عمله ؛ كان ذو قلب ناصع البياض ، هادئ الطباع ، رقيق الملامح ؛ بالرغم من فارق السن و الخبرة كنا قريبين بدرجة كافية لأن اكتسب منه الكثير ، والكثير .

نحن نعيش في بلد حر ، وديمقراطي علي حد علمنا آن ذاك ؛ حتى أتي أحد المرضي ذات يوم يحمل ورقة من الطبيب المعالج تفيد بأن هذا المريض يريد إجراء تحليل دم شامل لأنه متبرع ، أخذت منه العينة ثم أعطيتها للدكتور جابر ، وطلبت من المريض أن يعود بعد فترة ليستلم التقرير ، و في إصرار غريب طلب مني أن ينتظر النتيجة وجلس في ركن حتى لا يزعج أحداً .. أبديت استغرابي لما يطلب ، و اعتقدت أنها روح التطفل عنده .. بدأت في فحص العينة ، و إجراء التحاليل الواجبة عليها ؛ ثم وضعتها بالجهاز .. و فجأة ظهرت النتيجة فارتعشت يدي و أنا أحمل العينة ، وعيني أخذت تحدق بحده إلي عين المريض ، لم أصدق نفسي .. تمالكت أعصابي ، و ذهبت في خطي ثابتة للدكتور جابر و عرضت عليه الأمر بأن هذا المريض حامل لمرض الإيدز ، فأومأ برأسه دلالة علي أنه قد علم ، وطلب مني أن يفحص العينة بنفسه ، و بعد أن تأكد ذهب ليرفع سماعة الهاتف ليطلب المساعدة .. فجأة وجدنا المريض يثور ممسكاً السماعة من الدكتور جابر شاهراً مسدساً في وجهه وهو يقول بغلظة :

- ماذا يوجد بالتحليل ؟

يبدو أنه علي دراية بما فيه ، ولكنه أتي ليتأكد ، ويبدو أيضاً أنه قد فعل .. أخذنا نهدأ من روعه ، ونخبره بالكذب أنه لا شيء في التقرير ، وأنه علي خير ما يرام ، لكنه تأكد .. أخبرنا أنه سوف يخرج في هدوء دون أن يتأذي أحد ، لكنه يحمل مسدساً !! – وما الغريب في ذلك فكل طفل في الولاية يحمل مسدساً – إنها ديمقراطية في تلك البلدة – المهم – كان يحول الدكتور جابر دون خروج ذلك المريض الذي سوف يفسد بلد كامل ، و وقف عند الباب متصدياً للشاب ، و في أقل من برهة انطلق عياراً نارياً اخترق قلب الدكتور جابر فارتمي علي الأرض ، وقد فقد الوعي ، أو فارق الحياة فلا أعلم !! فقد أخذت أنا ركناً في الغرفة ، وأنا أضع احدي راحتي علي فمي محتضناً ساقي بالأخرى ، وأنا أصرخ بداخلي ظناً مني أن صرخاتي طلقات رصاص تدوي في أرجاء المستشفي ، أنظر و أحدق في عين القاتل ؛ حتى لاذ بالفرار .. هرولت أنا مسرعاً إلي أي طبيب لينقذ الدكتور جابر ، ولكن

عندما وصلت أنا ، وأحد الأطباء قد فارق الحياة .. فارقها و هو يؤدي واجبه حتى النهاية ، ولكن بقيت العدالة المزعومة تلك وبقيت حقوق الإنسان ؛ فأنا علي يقين تام بأن دم هذا الرجل الشجاع لن يضيع هباءً .. ظل الوضع أكثر من شهر ، ولكن دون جدوى .. فالقاتل ابن مسئول ، وقيد الحادث " ضد مجهول " !!


كتبها / كمال الصياد